كارثة تشيرنوبل: ندبة في قلب الطاقة النووية
تُعد كارثة تشيرنوبل، التي وقعت في 26 أبريل 1986، واحدة من أسوأ الكوارث النووية في تاريخ البشرية، ومثّلت نقطة تحول مفصلية في النقاش حول سلامة الطاقة النووية.
![]() |
ذكرى كارثة تشيرنوبل |
لم تكن مجرد حادثة، بل كانت تتويجًا لسلسلة من الأخطاء البشرية، وعيوب التصميم، والسرية التي طبعت الحقبة السوفيتية، مخلفة وراءها إرثًا من الدمار البيئي والبشري لا يزال صداه يتردد حتى يومنا هذا.
المفاعل النووي RBMK-1000: تصميم محفوف بالمخاطر
للفهم الكامل لكارثة تشيرنوبل، لا بد من استعراض طبيعة المفاعل الذي كان في قلب الحادثة.
كان مفاعل الوحدة الرابعة في محطة تشيرنوبل للطاقة النووية من نوع RBMK-1000، وهو مفاعل من تصميم سوفيتي فريد يعتمد على الجرافيت كوسيط لتهدئة النيوترونات والماء الخفيف كوسط تبريد.
بدأ بناء هذه الوحدة في عام 1979، وتم تشغيلها لأول مرة في عام 1983.
سبب الانفجار: مزيج كارثي من العوامل
لم يكن انفجار تشيرنوبل ناتجًا عن عامل واحد، بل عن تضافر مجموعة من العوامل المتزامنة، كان أبرزها:
اختبار سلامة فاشل:
كان سبب الانفجار المباشر هو إجراء اختبار فاشل لسلامة المفاعل، يهدف إلى اختبار قدرة التوربينات على توليد الكهرباء الكافية لتشغيل أنظمة الطوارئ بعد فقدان التيار الكهربائي الخارجي، قبل توقف الديزل الاحتياطي.تصميم المفاعل المعيب:
كان مفاعل RBMK-1000 يعاني من عيوب تصميم خطيرة، أبرزها "معامل التجويف الإيجابي". هذا يعني أنه عندما يتبخر الماء المبرد (الذي يمتص النيوترونات)، تزداد سرعة التفاعلات النووية بدلاً من أن تتباطأ، مما يؤدي إلى زيادة هائلة في الطاقة.كما كانت قضبان التحكم، التي تستخدم لامتصاص النيوترونات والتحكم في التفاعل، تحتوي على أطراف من الجرافيت، مما تسبب في زيادة لحظية في التفاعل عند إدخالها في بداية إيقاف التشغيل.
أخطاء تشغيلية جسيمة:
قام المشغلون بانتهاك العديد من إجراءات السلامة، بما في ذلك خفض قوة المفاعل إلى مستوى منخفض للغاية وغير مستقر، وسحب معظم قضبان التحكم، مما جعل المفاعل غير مستقر بشكل خطير وعرضة لارتفاع مفاجئ في الطاقة.نقص ثقافة السلامة والتدريب:
كانت ثقافة السلامة في المحطة متدنية، وكان هناك نقص في التدريب المناسب للمشغلين على التعامل مع الظروف غير العادية.في لحظة الانفجار، أدت هذه العوامل إلى ارتفاع هائل وغير متحكم فيه في طاقة المفاعل. ارتفعت درجة حرارة الوقود بشكل كبير، مما أدى إلى تبخر الماء بسرعة فائقة وتولد بخار عالي الضغط.
قوة الانفجار: تفاعل متسلسل مدمر
كانت قوة الانفجار هائلة، حيث تسببت في انفجارين متتاليين.
الانفجار الأول كان انفجارًا بخاريًا نتيجة لارتفاع الضغط الهائل، مما أدى إلى تمزيق قلب المفاعل وتدمير المبنى الذي يحتويه.
![]() |
انفجار تشيرنوبل |
تبع ذلك انفجار ثانٍ أكثر قوة ناتج عن اشتعال الهيدروجين المتولد من تفاعل الزركونيوم مع البخار الساخن، بالإضافة إلى المواد المشعة المتناثرة.
لم يكن الانفجار نووياً بالمعنى الحرفي للقنبلة الذرية (تفاعل نووي متسلسل غير متحكم به من انشطار اليورانيوم بشكل سريع جداً)، بل كان انفجارًا بخاريًا وكيميائيًا ناتجًا عن ارتفاع درجة حرارة قلب المفاعل إلى مستويات حرجة، مما أدى إلى تشتت كميات هائلة من المواد المشعة في الغلاف الجوي.
قدرت بعض التقديرات أن كمية المواد المشعة المتسربة كانت تعادل عدة مئات أضعاف قنبلة هيروشيما.
توقف المفاعل عن العمل وكيف تمت السيطرة عليه:
بعد الانفجار الكارثي، توقف المفاعل عن العمل بشكل فوري وبصورة مدمرة. تم تدمير قلب المفاعل بالكامل، وتناثرت قضبان الوقود المشعة والجرافيت الملتهب في المنطقة المحيطة.
تتجه الجهود الأولية للسيطرة على الكارثة نحو إخماد الحرائق الناتجة عن انفجار الجرافيت المشع، والذي كان يشتعل بقوة.
شارك الآلاف من عمال الإطفاء والجنود والعمال المدنيين (المعروفين باسم "المُصفّين" - Liquidators) في هذه الجهود، معرضين حياتهم للخطر الشديد. تم إسقاط آلاف الأطنان من الرمل والطين والرصاص والبورون من المروحيات على قلب المفاعل المشتعل في محاولة لاحتواء الحريق وامتصاص النيوترونات ووقف المزيد من التفاعلات.
![]() |
البناء المؤقت في تشيرنوبل |
بعد إخماد الحرائق الأولية، تم بناء "التابوت" (Sarcophagus)، وهو هيكل خرساني ضخم، حول المفاعل المدمر في غضون سبعة أشهر فقط. كان الهدف من التابوت هو احتواء المواد المشعة المتبقية ومنع المزيد من التسرب إلى البيئة. ومع ذلك، كان هذا الهيكل مؤقتًا بطبيعته، ويعاني من تصدعات وشقوق.
في عام 2016، تم الانتهاء من بناء "الحاوية الآمنة الجديدة" (New Safe Confinement - NSC)، وهي بنية ضخمة مقوسة تغطي التابوت القديم والمفاعل المدمر بالكامل، بهدف توفير احتواء طويل الأمد للمواد المشعة المتبقية.
![]() |
البناء الدائم في تشيرنوبل |
قدم الفيل (The Elephant's Foot): إرث الكارثة
تُعد "قدم الفيل" كتلة ضخمة من المواد المشعة المتصلبة، تشكلت من انصهار قلب المفاعل النووي ومواده المختلفة (مثل الوقود، والجرافيت، والخرسانة، والمعادن) بعد الانفجار. سميت بهذا الاسم لشكلها الذي يشبه قدم الفيل.
![]() |
قدم الفيل |
تتواجد قدم الفيل في الطابق السفلي تحت المفاعل المدمر، وهي شديدة الخطورة بسبب الإشعاع المكثف الذي يصدر عنها. في الأيام الأولى بعد الكارثة، كانت مستويات الإشعاع بالقرب منها مميتة في غضون دقائق. مع مرور الوقت، انخفضت مستويات الإشعاع، لكنها لا تزال خطيرة للغاية. تُعد قدم الفيل تذكيرًا ماديًا بالقدرة التدميرية المطلقة للكارثة، وتحديًا مستمرًا لجهود الاحتواء طويلة الأجل.
كيف تعمل المفاعلات النووية: لمحة سريعة
لفهم الانفجار، من المهم فهم المبدأ الأساسي لعمل المفاعلات النووية:
تعمل المفاعلات النووية على توليد الكهرباء من خلال عملية تسمى الانشطار النووي. في قلب المفاعل، يتم قصف ذرات وقود اليورانيوم-235 (أو البلوتونيوم-239) بنيوترونات حرة. عندما يضرب النيوترون ذرة يورانيوم، تنشطر الذرة إلى ذرات أصغر، مطلقة طاقة هائلة على شكل حرارة، بالإضافة إلى نيوترونات جديدة.
![]() |
المفاعلات النووية |
هذه النيوترونات الجديدة تضرب ذرات يورانيوم أخرى، مما يؤدي إلى تفاعل متسلسل مستمر. يتم التحكم في هذا التفاعل باستخدام:
قضبان التحكم:
مصنوعة من مواد تمتص النيوترونات (مثل الكادميوم أو البورون)، ويتم إدخالها أو سحبها من قلب المفاعل للتحكم في معدل التفاعل المتسلسل.
المهدئ (Moderator):
المبرد (Coolant):
التوربينات والمولدات:
الخلاصة: درس قاسي وندبة لا تندمل
تبقى كارثة تشيرنوبل تذكيرًا مؤلمًا بالعواقب الكارثية للتصميم المعيب، والأخطاء البشرية، ونقص الشفافية. لقد غيرت هذه الكارثة نظرة العالم إلى الطاقة النووية، ودفعت إلى تحسينات هائلة في معايير السلامة والتصميم في جميع أنحاء العالم.
بينما لا تزال منطقة تشيرنوبل منطقة حظر، فإن الإرث البشري والبيئي للكارثة سيستمر في التأثير على الأجيال القادمة، ليبقى درسًا قاسيًا محفورًا في سجل التاريخ.
.....................