الشركس:
يُعدّ الشركس، أو "الأديغة" كما يُسمون أنفسهم، شعبًا أصيلًا من شعوب القوقاز، يمتلك تاريخًا حافلًا بالشجاعة والصمود، وعادات وتقاليد راسخة تعكس أصالتهم.
لقد مرّ هذا الشعب بظروف تاريخية عصيبة، أبرزها حروب القوقاز التي تركت بصماتها العميقة على وجودهم وتوزعهم الجغرافي.
تاريخ الشركس: جذور في عمق القوقاز
تعود جذور الشركس إلى منطقة شمال القوقاز، حيث عاشوا لقرون طويلة في سهولها وجبالها.
تميزوا بفروسيتهم وشجاعتهم، وكانوا معروفين بمهاراتهم القتالية.
اعتنق الشركس الإسلام تدريجيًا منذ فتح بلاد الخزر وانتشاره في المنطقة، وأصبحوا غالبيتهم من المسلمين السنة.
خلال فترة المماليك في مصر، برز دور الشركس كمقاتلين محترفين، ووصل بعضهم إلى سدة الحكم في مصر، تاركين بصمة واضحة في تاريخها.
ومن أبرز هؤلاء القادة، الظاهر بيبرس وقلاوون، الذين لعبوا أدوارًا حاسمة في معارك تاريخية مثل عين جالوت.
حروب القوقاز: ملحمة الصمود والتهجير
شكلت حروب القوقاز فترة مظلمة في تاريخ الشركس، امتدت لأكثر من قرن من الزمان، بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر وحتى عام 1864.
تمثلت هذه الحروب في صراع دامٍ بين الإمبراطورية الروسية والشعوب القوقازية، سعت فيه روسيا إلى السيطرة الكاملة على المنطقة.
بدأت الحرب الروسية الشركسية تحديدًا في عام 1763، عندما بدأت روسيا في بناء الحصون والمخافر الحدودية في شمال القوقاز، بهدف التوسع والسيطرة.
قاوم الشركس وشعوب القوقاز ببسالة وشجاعة لا نظير لها، مدافعين عن أراضيهم وحريتهم. إلا أن التفاوت في القوى العسكرية أدى في النهاية إلى هزيمة الشركس في عام 1864، فيما يُعرف باسم "الإبادة الجماعية الشركسية".
تسببت هذه الحرب في كارثة إنسانية كبرى، حيث سقط مئات الآلاف من القتلى، وتم تهجير أعداد هائلة من الشركس قسرًا من أراضيهم.
تشير بعض المصادر إلى أن حوالي 400 ألف شركسي فضلوا الهجرة إلى الدولة العثمانية بدلًا من البقاء تحت الحكم الروسي، بينما توفي الآلاف منهم بسبب الجوع والمرض خلال رحلة التهجير.
يتم إحياء ذكرى يوم 21 مايو من كل عام كيوم حداد وطني للشركس في جميع أنحاء العالم، تخليدًا لذكرى هذه المأساة.
العادات والتقاليد الشركسية: "الأديغة خابزة"
يتميز الشركس بعادات وتقاليد غنية ومتجذرة في ثقافتهم، تُعرف باسم "الأديغة خابزة" .
هذه "الأديغة خابزة" هي مجموعة من القوانين غير المكتوبة التي تنظم حياتهم الاجتماعية والأخلاقية، وتُقدس ثلاثة مبادئ أساسية: الأخلاق، والقوة، والوطن.
يعتقد الشركس أن فقدان الأخلاق يؤدي إلى فقدان القوة، وفقدان القوة يؤدي إلى فقدان الوطن.
من صفات الشركس:
- الاحترام والضيافة:
- يُعرف الشركس بكرمهم الشديد وضيافتهم الفائقة، حيث يُعد إكرام الضيف واجبًا مقدسًا.
- الشرف والكرامة:
- يُعد الشرف والكرامة قيمتين محوريتين في المجتمع الشركسي، ويُبذل الغالي والرخيص في سبيل الحفاظ عليهما.
- المرأة الشركسية:
- تتمتع المرأة الشركسية بمكانة مرموقة وحرية كبيرة في اختيار شريك حياتها، ولا تُجبر على الزواج. كما تُعفى الفتاة قبل الزواج من الواجبات المنزلية، ويُعتنى بها عناية خاصة.
- الزواج:
- يُسمح للشباب والفتيات بالاختلاط والتعرف على بعضهما البعض قبل الزواج. وقد كان "الخطف" في الماضي أحد طرق الزواج المقبولة، حيث كان يُنظر إليه كاختبار لشجاعة الشاب.
- الرقص الشركسي:
- يُعد الرقص الشركسي جزءًا لا يتجزأ من هويتهم الثقافية، ويتميز بالإيقاعات الحماسية والحركات الأنيقة التي تعكس الشجاعة والفروسية.
- الفروسية:
- لطالما اشتهر الشركس بفروسيتهم ومهاراتهم في ركوب الخيل، والتي كانت جزءًا أساسيًا من حياتهم اليومية وحروبهم.
أين يتواجد الشركس الآن؟
بعد التهجير القسري، تشتت الشركس في أنحاء مختلفة من العالم. الجزء الأكبر منهم استقر في تركيا، حيث يشكلون جالية كبيرة ومؤثرة.
كما يتواجدون بأعداد ملحوظة في دول المشرق العربي، مثل:
- الأردن:
- يُعد الأردن موطنًا لجالية شركسية كبيرة، استقرت في مناطق مختلفة مثل عمان، وادي السير، صويلح، جرش، الزرقاء، والرصيفة، وناعور. وقد لعب الشركس دورًا مهمًا في بناء الأردن وتطوره.
- سوريا:
- يتواجد الشركس في سوريا في مدن مثل دمشق وحلب واللاذقية وحمص، وفي قرى مثل تلعمري وعين النسر وتليل.
- فلسطين:
- توجد جالية شركسية صغيرة في فلسطين، تتركز في كفركاما والريحانية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يزال جزء من الشركس يعيش في شمال القوقاز، في جمهوريات ذاتية الحكم ضمن الاتحاد الروسي، مثل:
- أديغيا
- قراتشاي - تشيركيسيا
- قبردينو - بلقاريا
في الختام، يظل الشركس شعبًا يتمتع بتاريخ مجيد، وحاضر يواصل فيه الحفاظ على هويته الثقافية الفريدة، رغم كل التحديات التي واجهها. إن صمودهم وتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم دليل على أصالة هذا الشعب وعمق جذوره في أرض القوقاز.